
بغداد 24 _ العراق
بقلم: عبير عبد الوهاب أحمد
ليس من السهل أن تذكر الفن العراقي دون أن تمرّ روحك على اسمها.
ليست مجرّد ممثلة قدّمت أعمالًا جميلة ثم غابت، بل هي صفحة راسخة في موسوعة الفن، بل عنوانها الأبرز حين نبحث عن الأصالة، عن الوعي، عن الجمال الذي لا يُقلَّد.
هند كامل، اسم حين يُنطق، لا يُستحضر معه دور تمثيلي فقط، بل تُستحضر قيمة، ورؤية، وشخصية امرأة لم تتعامل مع الفن كمهنة، بل كرسالة وامتداد لحياةٍ تؤمن أن الوعي لا يُلقّن، بل يُقدَّم من خلال الصورة والكلمة والحضور.
وُلدت في بغداد، ولم تكن خطواتها نحو الشاشة مصادفة، بل كانت بداياتها امتدادًا لعقلٍ يحمل مشروعًا ثقافيًا وفكريًا بقدر ما هو فني.
درست الإعلام، فجمعت بين الفكر والصوت، بين الوعي والانفعال الفني، وبين الموهبة والانضباط المهني.
ولأنها من خامةٍ خاصة لا تُستنسخ، شقّت طريقها بهدوء، لكنها حفرت في وجدان المشاهد العربي حفرة عميقة لا تُردم بسهولة.
حين كانت تصعد على الشاشة، لم تكن فقط تؤدي، بل تُشبهنا.
في ملامحها، تشعر بأنك ترى أمّك، أختك، جارتك، المثقفة التي تصغي لهمومك.
اختارت أدوارها كما يختار النحات ملامح وجه تمثاله.
لا مجاملة، ولا بهرجة، بل إحساس خالص يُلامس أعمق مناطق النفس.
هي الخامة التي لا تُكرّرها الورش الفنية، ولا تُنتجها المصانع الحديثة.
هند ليست نجمة سريعة، بل كوكب ظلّ يضيء لسنوات، وحين غاب، لم يخفت ضوءه من السماء.
في زمنٍ أصبح الفن فيه مشهدًا استهلاكيًا، وسرعة إنتاج، وملاحقة ترند، آثرت هند أن تبقى وفية لذاتها.
لم تشارك في أعمال لا تشبهها، لم تظهر في نصوص لا تؤمن بها، لأنها كانت دائمًا تعرف ما الذي يجب أن يُقال، ومتى يجب أن تصمت لتبقى.
غيابها ليس غيابًا عن الفن، بل عن مشهد لم يعد يرى الفن رسالة، بل سلعة.
ولهذا يفتقدها الشارع العراقي، ليس فقط لأنها ممثلة قديرة، بل لأنها جزء من ملامحه، من ضمير دراماه، من ذاكرته التي لا تزال تبحث عن المعنى بين الزحام.
هي ذلك الصوت الذي لم يُساوم، ولم يُراوغ، وظلّ مؤمنًا أن الفن إن لم يكن من الناس وإليهم… فلا جدوى منه.
اليوم، كل من عاصر الفن الجميل، وكل من تربّى على “الدهر” و”الرحيل المر” و”حكم العدالة”، ينظر إلى الشاشة ويتساءل: أين هند كامل؟ أين تلك الخامة التي كنّا نحتمي بها من الزيف؟ الجواب ليس صمتًا، بل اشتياقًا.
الشارع ما زال يراها جديرة بالمكان، والفن الحقيقي يفتقدها في كل مشهد ناقص، وكل دور فارغ، وكل كلمة تُقال ولا تُشعر.
هند كامل ليست فقط تاريخًا مضى، بل ضرورة آتية إن عاد للفن قلبه، وإن كُتبت النصوص بحب، وبُنيت الشخصيات بوعي، وحُملت الرسائل بصدق.
فهي باختصار، صفحة شامخة في موسوعة اسمها الفن العراقي، وسطرٌ لا يذبل في ذاكرة وطنٍ لا ينسى أبناءه النبلاء.
رسالة من هند كامل إلى الشارع الفني:”لم أغِب، لكنّني انتظرت… انتظرت نصًا يُشبه العراق، لا يُزيّف وجعه، ولا يُغلق أبوابه بوجه الأمل.
انتظرت دورًا يُعيد للمرأة هيبتها، لا يجعلها ظلًا أو زينة هامشية.
انتظرت فنًّا يحمل روحه، لا صدى الآخرين.
أنا لم أترك الفن، بل تمسّكتُ بمعناه الحقيقي، وصِدقه، وحرقتي عليه.
إن عدت، فلأنني رأيت في عيونكم شوقًا لا يخون، ونداءً لا يُشترى، ومساحة لا تزال تؤمن أن الفن رسالة، لا استهلاكًا.
إلى كل من سأل عني… أنا هنا، بينكم، بقلبي، وتاريخي، وذاكرتي.
وإن ناداني الدور الحقيقي… سأعود كما كنتم تعرفونني دائمًا: هند كامل التي لا تُشبه إلا وطنها.”