إستثقلتها، ثم عشقتها، ثم بكيت
بقلم الكاتب هادي جلو مرعي
يقولون عن الشخص الذي لايتعبهم، ولايثقل عليهم بشيء بأنه مهضوم، وبعضهم يقول عنه: إنه مريح. ولعل ذلك ينسحب على الأفعال والأقوال التي تصدر عن الناس، فالأغاني والقصائد والكتابات العميقة والفلسفة والرياضيات والعلوم التطبيقية والتجارب العلمية كلها مدعاة لإثارة قلق المتعاطي بها لجهة صعوبتها، ومايواجه الناس معها من صعوبة في الفهم، والتقبل، والقدرة على التعبير.
غنت أم كلثوم (نهج البردة) التي نظمها أحمد شوقي منتصف الأربعينيات من القرن الماضي، والتي لحنها رياض السنباطي، لكن أم كلثوم أعادت غناءها لمرات، سواء في مصر، أو في لبنان، وغيرها، خاصة وإنها نظمت في مدح النبي المصطفى، وطلب الناس في بلاد عربية عدة من أم كلثوم أن تغنيها كلما حضرت حفلا، أو زارت بلدا.
إستهل شوقي قصيدته بما كان من سبقه من الشعراء يفعل، ومنهم إمرؤ القيس الذي سبقه بقرون متطاولة في قصيدته التي بدأها بقوله:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
بسقط اللوى بين الدخول فحومل
فتوضح فالمقراة لم يعف رسمها
لما نسجته من جنوب وشمأل
يقول شوقي:
ريمٌ عَلى القاعِ بَينَ البانِ وَالعَلَمِ
أَحَلَّ سَفكَ دَمي في الأَشهُرِ الحُرُمِ
لَمّا رَنا حَدَّثَتني النَفسُ قائِلَةً
يا وَيحَ جَنبِكَ بِالسَهمِ المُصيبِ رُمي
جَحَدتُها وَكَتَمتُ السَهمَ في كَبِدي
جُرحُ الأَحِبَّةِ عِندي غَيرُ ذي أَلَمِ
يا لائِمي في هَواهُ وَالهَوى قَدَرٌ
لَو شَفَّكَ الوَجدُ لَم تَعذِل وَلَم تَلُمِ
كنت أقرأ تلك القصيدة وأشعر بقيمتها الفنية، ولكني لم أسطع أن أذهب بعيدا معها، حتى قررت أن لاأستثقلها، وأن أسمعها بصوت أم كلثوم، بعد أن قرأتها متخيلا شوقي يتلوها وهو يضع الطربوش على رأسه، ويحرك نظارتيه ليستوضح كلماتها أكثر، فعشت معها لحظات تأمل، ولما إقتربت من الحب إقتربت، ولما صدحت بكلمات الحب للنبي محمد بكيت.
مهم جدا أن لاننفي الأشياء، ونبعدها حين لاتستهوينا أول مرة، والمهم أن نركز فيها، ونتأمل، فلعلنا نجد ماكان مخفيا عن حواسنا ومشاعرنا، فندرك قيمة الكلمات وعمقها، والمدى الذي تقطعه في رحاب الإبداع، والتألق الفني، وصحيح أنني إستثقلتها أول مرة، لكني عشقتها، وبكيت.