امنثقافة وفنرئيسيمحلي

الدراية الإعلامية والمعلوماتية ملامح وعي جديد في زمن التحولات

بغداد 24 – العراق

بغداد – اللواء الدكتور سعد معن الموسوي

في زمن تتسارع فيه الإشارات وتتداخل فيه الأصوات اصبحت القدرة على التعامل مع الإعلام والمعلومات ضرورة يومية تفرض نفسها على كل فرد يسعى للفهم ورفض الانقياد..ولم تعد القضية تعليم مهارات تقنية بل بناء رؤية متكاملة تصنع إنسانا يدرك موقعه وسط هذا الطوفان المعرفي ويعيد ضبط بوصلة وعيه امام ضجيج المنصات اللامتناهي…إننا لا نتحدث عن مهارات إضافية بل عن وعي مركزي يعيد تشكيل علاقتنا بالمعرفة ذاتها

الدراية الإعلامية هي موقف ذهني يكسب المتعلم القدرة على قراءة الخطابات بعناية بعيدا عن الاستهلاك وفهم الصور لا التعلق ببريقها واكتشاف البنية الخفية وراء السرد لا الانبهار بمحتواه السطحي إنها انتقال من التلقي العفوي إلى الفهم التأويلي ومن الاستجابة الآلية إلى الموقف النقدي

حين طرحت اليونسكو رؤيتها بشأن القوانين الخمسة للدراية الإعلامية فإنها لم تكن ترسم مسارا نمطيا بل تفتح أفقا لتأسيس وعي كوني مشترك يتجاوز الفروقات الثقافية دون أن يلغيها…. القوانين التي تدعو إلى حرية الوصول وتحليل الخطاب وصناعة المعرفة لا يمكن أن تختزل في بنود جامدة بل يجب أن تتحول إلى ممارسة تربوية يومية تزرع في نسيج التعليم .

لكن هذا الوعي لا يستورد جاهزا فلكل مجتمع تركيبته ولكل بيئة خصائصها ما يصلح في أوروبا قد لا يتلاءم مع بنية ثقافية كالعراق حيث تتقاطع الذاكرة الجماعية مع واقع إعلامي هش وتتصادم الروايات في فضاء معلوماتي لا ضوابط له ، من هنا تنشأ الحاجة إلى تأصيل المفهوم  وإلى إنتاج نماذج تعليمية تنبع من حاجات المجتمع لا من تقارير المنظمات الدولية فحسب

في بيئة كالبيئة العراقية تتضاعف التحديات إذ لا يواجه المتعلم خطابا إعلاميا واحدا بل طيفا متناقضا من الرسائل يتداخل فيه السياسي بالديني والداخلي بالخارج والحقيقي بالمصطنع وهذا ما يحتّم على المؤسسات التعليمية أن تراجع أدواتها وأن تستبدل الحشو المعرفي بتمارين تحليلية تعيد للمدرسة دورها كمختبر للتفكير المنتج

الحديث عن الدراية الإعلامية هو حديث عن السيادة الثقافية في عصر أصبحت فيه المنصات الرقمية هي من تشكل الرأي العام وتعيد رسم الحدود الرمزية بين الشعوب من هنا تصبح كل لحظة تعليمية غير قائمة على التمحيص لحظة مهدورة وكل درس لا يحرّك التفكير النقدي درسا يعمق التبعية بدل أن يفتح باب الاستقلال

ما تحتاجه مجتمعاتنا ليس مادة دراسية جديدة بل منهجية متكاملة تجعل من القراءة فعل مقاومة ومن الكتابة أداة بناء ومن المتعلم شريكا في صياغة المستقبل لا متلقيا لفتات الماضي… هذا التحول لا يتحقق بقرارات فوقية بل بعمل تراكمي يستثمر المعلم بوصفه فاعلا مثقفا والطالب بوصفه عقلا حيا .

لقد أصبح الوعي الإعلامي اليوم أحد مفاتيح البقاء الثقافي ليس بوصفه تقنية للتمييز بين الخبر الكاذب والحقيقي فحسب بل كقدرة على طرح الأسئلة الصعبة وتفكيك الصور النمطية والتعامل مع المعلومة كجزء من معركة رمزية مستمرة

من هنا لا تقرأ دعوة اليونسكو بوصفها تعليمات جاهزة بل كنقطة انطلاق لمشروع حضاري يستند إلى المعرفة بوصفها عملية حية تتطلب الجرأة على النقد والقدرة على الاختيار والوعي بديناميكيات الخطاب في زمن لم تعد فيه الحقيقة بريئة ولا الكذب ساذجا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

يرجى ازالة ايقاق الاضافة لاستخدام الموقع ، الموقع محمي